لكل محتار بعد رمضان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد تطرأ مشكلات بعد رمضان، منها:
الحيرة في مصير الأعمال: إن النفوس جبلت على التشوف للغيب، والرغبة في استعجال العلم الذي حُجب عنها.. ومن مظاهر ذلك ما تراه من الطالب فور انتهائه من الامتحان أنه يبحث عمن يأتيه بالنتيجة من (الكنترول)
وبعد رمضان .. تظهر هذه المشكلة:
هل أنا من المقبولين؟
كيف أعرف أنني من المقبولين ؟
والجواب المريح والله أعلم :
(1) أن يجد العبد قلبه أقرب إلى الله ، وآنس به وأحب إليه ، فهذه ثمرة الطاعة وعلامة القبول .
(2)أن يحب الطاعات ويقبل عليها ، ويشعر أن أبوابها تتفتح له وييسر له فعلها ، ويشعر أن أبواب المعاصي تغلق عنه ويصرف عنها ، ويكرهها ويستنكف عن فعلها .
(3)أن لا يفقد الطاعات التي كان يقوم بها في رمضان ، بل يواظب عليها ، بل ويستحدث بعد رمضان أعمالا لم تكن له قبل رمضان .
(4)أن لا يعود إلى الذنوب التي تاب منها في رمضان ، فقد تكلم العلماء فيمن تاب من ذنب ثم عاد إليه ، أن هذا دليل على أن توبته لم تقبل ؛ لأنها لو قبلت لما عاد إلى الذنب مرة أخرى ، لذلك ثبت في الحديث أن : " من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" [متفق عليه] ، أي عوقب بذنوبه السابقة أيضا؛ لأن في الإساءة بعد التوبة حبوط للتوبة ، ولعل من أسرار هذا ، الأمر بالعمل الصالح بعد التوبة ، قال تعالى { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } [الفرقان 70] ، { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى } [طه : 82 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " واتبع السيئة الحسنة تمحها " [أحمد وحسنه الألباني] ، فاشتراط العمل الصالح بعد التوبة حزم في منع الرجوع إلى الذنب .
(5)استشعار المنة ، وعدم الإدلال بالعمل : قد يبتلى العبد بعد رمضان بشعور غامر أنه أدى ما عليه ، وحبس نفسه في رمضان عن أشياء كثيرة مما يشتهيه ، فتجده يوم العيد عاصيا !! ، وهذه من علامات عدم القبول ، أن ينقلب على عقيه بعد رمضان مباشرة ، { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } (آل عمران : 144 ) ، ولذلك فمن علامة القبول أن تجده خائفاً على العمل وجلاً ألا يتقبل ، مستشعرا فضل الله ونعمته عليه ، متحدثا بذلك ، شاكرا لأنعم الله مواصلا للذكر .
(6)و من علامات قبول رمضان : صيام ست من شوال ؛ فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده ، كما قال بعضهم : ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها ؛ كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى ، كما أن من عمل حسنة ثم اتبعها بسيئة ، كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها ، فمن رام أن يعلم مدى قبول عمله من ذلك ، فليعود نفسه على الصيام والقيام من جديد حتى يكون صيامه الثاني علامة على قبول صيامه الأول ، وحتى سكون قيامه الآخر علامة على قبول قيامه السابق عليه .
(7) إذا كنت بعد رمضان تسارع إلى الطاعات محبا لها ، وتترك المعاصي أنفة منها ، فتلك من علامات القبول ، وإذا رأيت أبواب الخير تفتح لك مثل البكاء ، ورقة القلب ، والسهر ، وقلة النوم فهذه من ثمرات رمضان أيضا ، كما هي في رمضان أو أزيد ، فهذه من علامات القبول .
(
إذا كنت بعد رمضان أفضل مما كنت عليه قبل رمضان ، وتستشعر أن لك قلبا جديدا ينبض بحب الله ، وتحس أنك تحب ربك أكثر ، وتحب ذكره والقيام بين يديه ، وتحب شكره وتحب الإقبال عليه ، فهذه من علامات القبول .
9 - الخوف من عدم قبول العمل: فالله غني عن طاعاتنا وعباداتنا، قال عز وجل : (وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12]، وقال تعالى : (إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7] ، والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم ، أولئك الذين يسارعون في الخيرات). فعلى الرغم من حرصه على أداء هذه العبادات الجليلات فإنه لا يركن إلى جهده، ولا يدل بها على ربه، بل يزدري أعماله، ويظهر الافتقار التام لعفو الله ورحمته، ويمتلئ قلبه مهابة ووجلاً، يخشى أن ترد أعماله عليه، والعياذ بالله، ويرفع أكف الضراعة ملتجئ إلى الله يسأله أن يتقبل منه.
10 - استصغار العمل وعدم العجب والغرور به : إن العبد المؤمن مهما عمل وقدَّم من إعمالٍ صالحة ,فإن عمله كله لا يؤدي شكر نعمة من النعم التي في جسده من سمع أو بصر أو نطق أو غيرها، ولا يقوم بشيء من حق الله تبارك وتعالى، فإن حقه فوق الوصف، ولذلك كان من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولا يرونها شيئاً، حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويكسلوا عن الأعمال الصالحة. و مما يعين على استصغار العمل:معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير. قال الإمام ابن القيم: « كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله" مدارج السالكين، (439/2).
12- الرجاء وكثرة الدعاء: إن الخوف من الله لا يكفي، إذ لابد من نظيره وهو الرجاء، لأن الخوف بلا رجاء يسبب القنوط واليأس، والرجاء بلا خوف يسبب الأمن من مكر الله، وكلها أمور مذمومة تقدح في عقيدة الإنسان وعبادته. ورجاء قبول العمل- مع الخوف من رده يورث الإنسان تواضعاً وخشوعاً لله تعالى، فيزيد إيمانه . وعندما يتحقق الرجاء فإن الإنسان يرفع يديه سائلاً الله قبول عمله؛ فإنه وحده القادر على ذلك، وهذا ما فعله أبونا إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، كما حكى الله عنهم في بنائهم الكعبة فقال: ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)( البقرة:127).
13 - التيسير للطاعة والإبعاد عن المعصية :سبحان الله إذا قبل الله منك الطاعة يسَّر لك أخرى لم تكن في الحسبان ,بل وأبعدك عن معاصيه ولو اقتربت منها . قال تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10})4-10 الليل
14 - حب الصالحين وبغض أهل المعاصي : من علامات قبول الطاعة أن يُحبب الله إلى قلبك الصالحين أهل الطاعة ويبغض إلى قلبك الفاسدين أهل المعاصي ،و لقد روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)).
15 - كثرة الاستغفار: المتأمل في كثير من العبادات والطاعات مطلوبٌ أن يختمها العبد بالاستغفار،فإنه مهما حرص الإنسان على تكميل عمله فإنه لابد من النقص والتقصير، ، فبعد أن يؤدي العبد مناسك الحج قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ( البقرة:199). وبعد الصلاة علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستغفر الله ثلاثاً ، وأهل القيام بعد قيامهم وابتهالهم يختمون ذلك بالاستغفار في الأسحار،قال تعالى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )الذاريات18 ، وأوصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقول (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) محمد19 وأمره أيضاً أن يختم حياته العامرة بعبادة الله والجهاد في سبيله بالاستغفار فقال: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً{2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً{3})النصر فكان يقول صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) رواه البخاري.
16 - المداومة على الأعمال الصالحة: كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة- رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) رواه مسلم. و أحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). متفق عليه. وبشرى لمن داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كتب له أجر ذلك العمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) رواه البخاري ، و هذا في حق من كان يعمل طاعة فحصل له ما يمنعه منها، وكانت نيته أن يداوم عليها. وقال صلى الله عليه وسلم ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه). أخرجه النسائي.
أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وحجهم وجميع طاعاتهم وكانوا من عتقائه من النار.