الحمد لله رب العالمين مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، جاعل الأيام والأوقات مناسبات للطاعات ونيل الدرجات، فما يحل بالمؤمن موسم من مواسم الخيرات ثم ينقضي إلا حباه الله تعالى بموسم آخر يجدد فيه إيمانه وتعلقه بالله الواحد القهار، وفي هذه الأيام القليلة المباركة نستقبل شهراً من شهور الطاعات يغفل عنه الكثير من الناس، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما سأله حِبُّه وابن حِبِّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» رواه النسائي في السنن (2356)، وحسنه الألباني في الإرواء (4/103).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر صيام شعبان، كما قالت عائشة رضي الله عنها: « كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حتَّى نَقُولُ لاَ يُفطِرْ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ، فمَا رَأَيتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهرٍ إلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكثَرَ صِيَامًا مِنهُ في شَعْبانَ».(1)
وعنها رضي الله عنها قالت: « لَمْ يَكُن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كلَّهُ وَكانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فإنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ... » الحديث (2)
فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم بفِعله وقولِه شدَّة اهتِمَامِه بهذا الشَّهر الفَضِيلِ، الذي نغفلُ ويَغفُلُ عنه الكثير من الناس ظنًّا منهم ألاَّ فضل في صيامه وأن المسلم لا يصوم إلا شهر رمضان وبعض أيام السنة، لكن الموفق من وفقه الله للاهتمام بهذا الشهر استعدادا لشهر الخيرات والبركات، فلا ينبغي الغفلة عنه اقتداء بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ثم في الاجتهاد في صيامه فوائد بين بعضها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، ذلك أن الأعمال تُرفع في هذا الشهر إلى العلي المتعال، فلذلك استحبَّ أن يُرفع عمله وهو صائم فينال الأجر والثواب والرفعة عند المولى تعالى.
ومنها أن يتعود الإنسان على صيام رمضان، فمن صام شيئا من شعبان تعود واعتاد على الصوم والطاعة، فيكون هذا الشهر كالمقدمة للشهر العظيم في التمرن على الطاعات، لذا كان بعض السلف ينتهز فرصة شعبان للطاعة، قال سلمة بن كهيل: كان يقال: «شعبان شهر القراء»، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: «هذا شهر القرَّاء»، «وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن».
وهذا كله منهم استعدادا لشهر الخيرات والبركات رمضان، فيحسن بالمسلم مراجعة محفوظه من كتاب الله في هذا الشهر، خاصة من كُلف منهم بصلاة التراويح قبل دخول رمضان، ليجد نفسه مستعدا لإمامة الناس وقراءة القرآن كما أنزل، لا أن يترك ذلك لليالي رمضان فقد يعوقه عائق عن مراجعة محفوظه فتختل صلاته كما نراه واقعا عند بعض الأئمة هداهم الله.
وفي هذا الحديث بيان أنَّ الأعمال المعروضة على الله في هذا الشهر هي أعمال السنة، وقد جاء أنَّ الأعمال تعرض في آخر كل يوم، وتعرض يوم الإثنين والخميس، وقد ذكر الإمام ابن القيم الجمع بين الروايات فقال: « رفع الأعمال وعرضها على الله، فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال قال: «فَأُحِبُّ أن يُرْفَعَ عَمَلِي وَأنَا صَائِم »، ويُعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها، كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يَرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلَ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلَ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ» فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الإثنين والخميس والعرض فيها أخص من العرض في شعبان ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف وهذا عرض آخر ...». (3)
فحريٌّ بالمسلم اغتنام الأوقات والمناسبات في التقرب إلى الله بالطاعات لينال المرضات، والحمد لله رب الأرض والسموات، وصلى الله على نبيه خير البريات.
(1) رواه البخاري (1969)، ومسلم (2721).
(2) رواه البخاري (1970) ومسلم (2723).
(3) طريق الهجرتين (1/133).